Saturday, October 13, 2018

فاشلون حتى في الكذب

كم أفتقد هرتزل واجتماعاته السرية! كم أفتقد لورانس العرب وغيرترود بيل وطابور المستشرقين! وسايكس وبيكو أيضاً!
كل عاقل يعلم أن السياسيين يكذبون و يخططون بالخفاء ويقولون ما لا يفعلون بالضرورة. كان لهم بعض الهيبة والإحترام لدى عامة الناس، كانت كلماتهم منمقة ومختارة بعناية، نعم كانوا يكذبون لكن بذكاء، يرسلون الجواسيس والباحثين لمعرفة طبائع الشعوب ليختاروا بعدها الخطة الأمثل والخطاب الأكثر قبولاً وتصديقا لدى الجماهير. كان يطل رؤساء الوزراء وزعماء الدول بأبها حلة، يحسبون كل حركة وكل كلمة خوفاً من أن يظهروا بما لا يناسب مقامهم لدى العامّة. نعم كانوا أشرارأ ولكن على الأقل كانوا يتعبون أنفسهم لإرضاء الجماهير ولو ظاهرياً.
أما ومع بدء الألفية الجديدة فقد ظهر نوع جديد من السياسيين، ليس لهم من السياسة إلا المسمى، هم حمقى وجاهلون و ليس لهم احترام ولا هيبة، ولكن ما يغيظني حقا هو مقدار الغباء والفشل الذي يديرون به دولهم، فجورج بوش كان قمة جبل الجليد فقط، رجل مغيب عن الحقائق، لا يعلم التاريخ ولا الجغرافيا، لغته ركيكة ومستوى ذكائه تحت المتوسط. فجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبها ما بها من الأخطاء وعلامات الإستفهام عن دور الدولة العميقة، ثم تبعها بإعلان الحرب على العراق لسرقة الموارد وتغير خريطة الشرق الأوسط تحت غطاء منع أسلحة الدمار الشامل، وتمادى بعدها ليعلن إما أن تكون مع أمريكا أو تكون إرهابياً! والغريب أن بعض الدول ذات الماضي العريق بالمكر والدهاء السياسي كبريطانيا وفرنسا مثلاً، إنجرت وراء تلك التفاهات التي لا يصدقها أحد عاقل! وبدا سياسيوها وكأنهم تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وربما تذكرون أغية "أطلق النار على الكلب" للمغني جورج مايكل التي تلخص حالة الغباء التي رافقت تلك المرحلة وهو يصور توني بلير رئيس وزراء بريطانيا في وقتها ككلب بوش.
تنفس العالم الصعداء بعد انتهاء حكم بوش وتأمل في أوباما خيراً، لم يتغير شيء سوا أسلوبه المنمق في الخطابة! أما عن إيجاد المبرر لقتل الأبرياء، فما كان هنالك خيار أسهل من صنع عدو وهمي، ومن ثم نفخه ليصبح فزاعة تبرر كل جرم، فكانت القاعدة في البداية ولكن بدأت الناس تتململ من عجز الحكومة عن القضاء عليها طوال هذه السنين، وبقدرة قادر! وبين ليلة وضحاها قتل زعيمها وزال خطرها! وما لبثوا أن جائوا بنسخة معدلة، أكثر إجراما وتخويفا للناس، فأطلت داعش، ربما انضم الكثير من الشباب العربي المقهور طوعاً لصفوفها، ولكن السر يكمن في القيادة، وجوقة الإعلاميين الذين يروون للناس القصة بما يناسب أهوائهم ومصالحهم، وبين عشية وضحاها أيضاً، سقطت الموصل وبدء التنظيم بالإنتشار، بل جعلوه عالميا! تفجيرات في قلب آوروبا! لكن المذهل حقا هو توقيت تلك التفجيرات، انتخابات هنا أو هناك، لا مشكلة تفجير بسيط لقلب الموازين، وداعش تتبنى! بطالة متفشية وقوانين ضد العمال، بسيطة! حادث دهس، وداعش تتبنى! كتالونيا تريد التصويت للاستقلال عن اسبانيا، ياللعجب! لقد حان موعد الجهاد إذا، حادس دهس آخر! وداعش تتبنى أيضاً! ربما من الأفضل أن يغير التنظيم اسمه لأنجيلينا جولي!
 وفجأةً...لا شيء! لسبب ما توقف التفجير والدهس، لكن لا زالت روسيا في سوريا! وإسرائيل تقصف سيناء! لا أدري كيف لجيوش تنفق الترليونات على أحدث الأسلحة أن تفشل أمام عشرات البيك أب ترك من تويوتا! تباً للدبابات وال إف 35، فلنشتري تويوتا قاهرة الجيوش!
وكذلك أختفت إنفلونزا الطيور! وأختفت الطائرتان الماليزيتان! واختفت الإيبولا! واختفت أدلة استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا! واختفت كرامة الإنسان!
واستمر الإنحدار في نوعية السياسين حول العالم، فصور النائبين النائمين خلال الجلسات أتت من كل بلد تقريباً، وآخرون يأكلون التسالي، وآخرون يقامرون أو يتصفحون المواقع الإباحية. كانت الرشوة في الماضي سرأ من أسفل الطاولة، لكنها أصبحت علنية أمام الملأ، فكم من قانون مر في مجالس الشيوخ حول العالم بناءً على طلب أصحاب رأس المال وتجار السلاح! واستمر الإنحدار...
فلم يكن فوز المهرج ترامب مفاجئ! لندخل بعدها مرحلة جديدة تعدت الغباء السياسي إلى مرحلة الوقاحة السلطوية. نعم لقد ماتت السياسة وما نراه لا يعدو كونه حكم سلطوي دكتاتوري النزعة، لا يحترم البشر ولا يحترم عقول الجماهير، تماماً كما حدث بعد بيان كذب فرعون أمام الحجج التي أتى بها نبي الله موسى عليه السلام، ففشلت سياسة الكذب والمماطلة وتزييف الحقائق، ليستبدلها بالغطرسة والوقاحة، فقال فرعون "لا أريكم إلا ما أرى" وتمادى فقال "أنا ربكم الأعلى". لقد عدنا بعد آلاف السنسن لذات النقطة، لكن هذه المرة ليس بفرعون واحد، بل مئات الفراعين!
وما يدعوني للعجب هو صمت تلك الجماهير التي تتلقا هذه النفايات صباح مساء، كذب مكشوف، واعترافات بالرذيلة والبغاء والعمالة للأعداء، تباً لمهرجي العصر، فعلاً صدق رسول الله حين قال « قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ » قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : المَرْؤُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ .

No comments: